15 - 06 - 2024

حكايات الصحافة| قيامة الأسرى!

حكايات الصحافة| قيامة الأسرى!

قبل عشرين سنة تقريبا، ــ وكنت ما أزال في مجلة نصف الدنيا ــ قرأت خبراً بثّته وكالة «رويترز»، حول اعترافات ضابط إسرائيلي شارك في مذابح الأسرى المصريين أثناء الأيام الأولى لنكسة 1967. قال القاتل الصهيوني إنهم دفعوا الجنود المصريين لعمل حُفرِ كبيرة بأيديهم، وحين وصلت الحفر لعمق كبير أطلق عليهم الصهاينة النار بوحشية واستمتاع، يتلذذون بالدم وهم يضحكون، ويسبون عبد الناصر، فصرعوهم فيها، جثثاً مكومة فوق بعضها، مذعورة ومجهدة، غارقة في الرعب والعرق وهلاليل ممزقة. وأهالوا عليهم الرمال بالجرّافات. لهذا بقي عدد كبير جدا من الجنود في عداد المفقودين إلى الآن، واحترقت عليهم قلوب أهاليهم، ومات آباؤهم بحسرتهم!!

المؤلم. أن جميع الصحف المصرية نشرت الخبر بشكل عادي، وكأنه عن افتتاح فرع جديد لمطعم، لأن الأمور أيام مبارك كانت قد وصلت إلى حد وصف الصهاينة له بأنه «كنز استراتيجي».

قبل ذلك بأيام. وبصدفة لا تصدق. كنا قد طلبنا، أنا وزميل لي، من رئيسة التحرير أستاذة «سناء البيسي» الموافقة على عمل ملف للمجلة عن شمال سيناء, كما اعتاد الزملاء على عمل ملفات عن أهم مافي المحافظات. وتزامنت موافقتها مع موافقة العلاقات العامة بالمحافظة، واشتعل رأسي بفكرة عمل تحقيق عن تلك المجازر، ولم أخبر زميلي الذي كان يعتبر تلك المهام الصحفية فسحاً، ولهوا إلا ونحن في سيناء. وحين شرحت له أهمية الموضوع أدرك قيمته من فوره، ووازن بين اللهو والعمل. وطلبت من موظف صغير بالعلاقات العامة ليست عنده حسابات ولا حساسيات المناصب أن يدلنا على أحد شهود العيان لتلك المجازر. فدَلَّنَا بيُسر على بيت أحد أعضاء «منظمة سيناء» العظيمة التي قادت الكفاح الوطني ضد الاحتلال الصهيوني لسيناء من بعد النكسة، وكان صيدلانياً متقاعدا لإصابته بشلل نصفي، واستقبلنا في بيته اللطيف، وكان الرجل يشبه الآباء المصريين في سينما الخمسينات والستينات، ومع أن مرضه يصعَّب وقوفه وحركته، غير أنه أصر على استقبالنا على باب شقته بالطابق الثاني، ومشى أمامنا يترنح، ووصل إلى مقعده بمشقة، وكأنه كان فرحا باستقبالنا كما بدا على وجهه، وأخبرنا أن أحدا لم يسأله عن «منظمة سيناء» من أمد بعيد، حتى كاد ينسى، وظن أنه سيموت قبل أن يتاح له قصّ بطولات المصريين ضد الاحتلال، وتنسيقهم عمليات المقاومة مع المخابرات عبر ضباط تخفُّوا طوال فترة الإحتلال، وقادوا العمليات. كان الصيدلاني يتحدث بحب وفخر  ظاهر، والفرح يكسو  ملامحه، حتى بدا لي أن جانبه المصاب اكتسب بعض العافية وبدأ يتحرك نسبيا، فيده المشلولة وجانب فمه المتوقف استردا عافيتهما، وأحسست أنني أمام بطولات لم نعرف عنها شيئا، وفي طريقها للإندثار، نتيجة الإهمال، واختلاف الرؤية الرسمية لما قدمه أعضاء المنظمة من خدمات جليلة، وكان الرجل مزهوا وهو يشرح لنا نماذجا من الأعمال البطولية، والتي كانت محفوفة بخطر الوحشية الصهيونية في كل لحظة. وتهلل وجهه حين طلبت زيارة مكان مذابح الأسرى، وقال أنه لو كان بصحته لصحبنا إليها، واتصل بأصدقاء ليقودونا في مهمتنا، ووصلنا إلى شهود العيان بلا عناء، ووجدنا عددا كافيا ممن رأوا المجازر بأعينهم. لم أصدق نفسي ونحن نستمع إليهم. كانوا جميعا يتلهفون على قص ما رأوه، وتذكير بعضهم بالتفاصيل، وقال أحدهم بتأثر عميق أنه رأي بأم عينيه مذبحة محطة السكة الحديد بالعريش كاملة، وبكى وهو يحكى تفاصيلا مرّوعة، ويرتعد. كان شابا وقتها، وتركه الصهاينة يرى المجزرة كاملة، لينشر الخبر، وينقل الهلع إلى غيره كما يريدون تماما، لإفزاع المصريين بطريقة «الصدمة والترويع» التي تفننوا فيها من بداية استيلائهم على قرى ومدن فلسطين المتفرقة. ليضعوا العالم كدأبهم أمام الأمر الواقع الجهنمي، وهم يعرفون أن هناك من سيدافع عنهم، وأن آلتهم الإعلامية الجهنمية ستروج الأكاذيب التاريخية التي برعوا فيها، حول كونهم ضحايا، ويردون اعتداء مصر، ورعونة عبد الناصر، وأنهم في حالة دفاع عن النفس. 

تهدج صوت الرجل، وشرق بدموع الذكرى، واختلف حكيه، واهتز جسده كأنه يقف مجددا أمام المشهد المفزع، وانفجر باكيا بلا خجل، فأبكى جميع من حوله. 

وحدد لنا الشهود موعدا لنذهب إلى مكان أكبر مجزرة!!

وهناك كانت بانتظارنا مفاجأة عجيبة. فالشاهد الأهم كان أعمى. كف بصره تدريجيا عبر سنوات ما بعد النكسة، وخبا نور عينيه، وكأن الظلام أحكم الباب على تفاصيل الفجيعة فحفظها أفضل من المبصرين. وفي جنوب مدينة العريش كان الرجل يحدد المكان بعلامات يعرفها رفاقه، ويَعُد خُطواته، وهو يمسك بيد قريب له، يقوده بناء على وصفه الدقيق، وعند مكان بعينه توقف، وقال بصوت جهوري، وبلكنة بدوية، وفصحى رصينة ارتعدت لها: «هنا.. قتل الصهاينة فلذات أكبادنا.. هنا.. دفن الصهاينة عشرات من أنبل أبناء مصر.. بوحشية يهتز لها ضمير العالم.. إن كان هناك عالم».. كان الحزن قد شرخ صوته، وغلبه النحيب، وأخذت الجميع نوبة بكاء.. وجلس الرجل على الرمال، ودس يديه فيها وحركها بعمق وسهولة، كأنه يسبح بيديه، فطفت على سطحه «عظام الأسرى المغدورين» فجأة، وارتعدنا جميعا، كأن شيئا مباغتاً ضرب أجسادنا، ورأينا عبر غلالات الدموع سواعدا، وسيقان مكسورة، وعُقل أصابع متناثرة، وعظام حوض مهشمة، وكلها متآكلة، تبدو  هشّة، لكنها طرحت أمامنا صورة كاملة للكارثة. وتوالت بمخيلتي كل المشاهد التي سمعنا عنها، وقرأناها، عن ملاحقة الصهاينة لجنودنا الفارين تحت القصف الوحشي، وملاحقتهم بالهليوكوبتر، واستهزاء المجندات الإسرائيليات برجال كسرتهم الأكاذيب، والهزيمة الثقيلة، وحين حاولوا العودة إلى الضفة الغربية، لاحقوهم عبر بحار الرمال الممتدة لمئات الكيلومترات، في حرّ يوينو، الذي كان يكفي وحده لقتلهم بالقيظ والعطش، في أسوأ هزيمة ومذلة يمكن أن يمر بها جنود.

وزميلنا المصور يلتقط صورا لعظام الأسرى المغدورين. تذكرت بحزن بالغ حالة عجيبة عاشتها قريتنا، ربما مثل مئات القرى، وآلاف الأسر، حين كان أحدهم يصيح بحماس: «المسكين رجع».. وكانت هذه الجملة القصيرة كفيلة بخروج أهالي بلدتنا عن بكرة أبيهم، يهرولون في كل الشوارع صوب بيت «المسكين» ( لاحظوا الاسم ودلالاته )، و«المسكين» هو أحد الأسرى المفقودين الذين لم يعودوا من نكسة 1967، وعمُّ لثلاثة من أصدقائي، وكثيرا ما حكوا لنا لاحقا عن صفاته الباهرة، لكنه لم يعد أبدا، ولم يعرف عنه أحد شيئا إلى الآن. كان الناس جميعا يهرولون بفرح إلى «بيت عائلة المسكين» وهم يمنُّون أنفسهم بمشاهدة ابنهم العائد من بين أيدي الصهاينة، ويفاجئ أهله عادة بحشود الناس، فتتجدد أحزانهم، وينفجر البكاء، وتسيل الدموع على خدِ القرية كلها. ويعود الناس ببطء مطأطئي الرؤوس، مكسوري الخاطر إلى بيوتهم، لتهزّ  الأحزان قلوبهم، وتبقى كامنة في نفوسهم، وأعماق دورهم الطينية، إلى أن يموت الكبار الذين التاعت أرواحهم على الشهداء، واكتووا بنار الفقد، وقبل أن يفرحوا بانتصار أكتوبر العظيم، داهمهم زيف «كامب ديفيد» الذي بدّد كل القيم في طريقه تواطئا مع الاجتياح الوهابي لكل العادات والتقاليد.

لم أصدق أن  حل «اللغز الجماعي الوطني الكبير» أمام أعيننا، وأن جريمة الصهاينة الجنونية، تمت تغطيتها بتواطؤ  رسمي من جهتنا، وربما تم الاتفاق على هذا الإهمال العمدي أثناء مفاوضات «كامب ديفيد»، ومع أننا درسنا نصوص تلك المعاهدة المخيفة (العلنية والخفية) على يد الدكتور «الشافعي بشير» في حقوق المنصورة في الثمانينات، وكان قد أوقف حياته على كشف كل خفاياها، إلا أن هذا الموقف تحديدا ظل غامضا في نظري، وبقي هكذا إلى الآن، فمن أمكنه التنازل عن حق هؤلاء الشهداء، من دون القصاص لكرامتنا الوطنية، ودماءهم المسفوحة. ألهذا السبب أحب الصهاينة السادات، وقالوا عنه «أشيك رجل في العالم»، ولهذا أيضا قالوا أن مبارك «كنز استراتيجي»؟!!.

وتجولنا مع شهود العيان، بقلوب حائرة، بين أكثر من مكان لمجازر الصهاينة، حتى استقر  في وجداني أن هؤلاء المجرمين مسكونون بكراهية وأحقاد تاريخية تجاه مصر تحديدا، تستعصي على النسيان، وأن السلام عندهم ليس غير مهلة لتنظيم مخططاتهم ودعمها، وتقوية قدراتهم على التسلل إلى بلادنا، وحياتنا، كما نرى الآن، وتحقيق أقصى المكاسب على حسابناـ بعد هواننا نحن، وضعفنا الفادح، وقدرتنا الرسمية المخزية على التغاضي، وتضليل الرأي العام لصالح الصهاينة، وإهدار حقوقنا التاريخية، والإنسانية.

وسمعنا سيدة عجوز، من شهود العيان على اقتحام الصهاينة لبيوت أهالي العريش، والمناطق المجاورة، بنفش الوحشية، والجنون، في ضرب الناس بالنار لأهون سبب، ونسف البيوت، واقتحامها بالجرافات، وترويع الجميع. كانت السيدة تحكي بتماسك كبير، وملء صوتها حسرة على كل حقوق الناس التي أهدرت إلى غير  رجعة، وأنهم باتوا يعتمدون على سعيهم دون انتظار  لأية تعويضات عن أبناءهم الذين قتلوا، أو ممتلكاتهم التي نسفها الصهاينة، وكأنهم ليسوا مواطنين.

وفي الرحلة ذاتها، ذهبنا إلى الشيخ «زويد» بناء على نصيحة الصيدلاني، عضو «منظمة سيناء» لرؤية «صخرة ديان» التي تم النص على حمايتها في بنود معاهدة «كامب ديفيد»، وشرح لنا أحدهم، أن المنحوتة فكرة «موشى ديّان» وزير الدفاع الصهيوني، وكانت لها ثلاثة وجوه، الأول تجسيد مطابق لشكل شبه جزيرة سيناء، والثاني لـ «امرأة بدوية» تتلفح بطرحتها، والوجه الثالث، المؤلم، نقشت عليه أسماء طيارين اسرائيليين قُتلوا في الاشتباكات مع مصر، وكُتب أعلى القائمة كلمة «شهداء»، واشترط الصهاينة الإبقاء على النُصب كما هو، تقديرا  لقتلاهم، وتوقيرا لوزيرهم «ديان» لص الآثار المصرية. المذهل في الأمر، حرص السلطات المصرية على «صخرة ديان»، في الوقت الذي أهملت حقوق الشهدا، وحق أهاليهم في معرفة الحقيقة.

المفارقة المدهشة. أن رجلا في العلاقات العامة بالمحافظ، أظنه كان رئيسها، (لا أحب ذكر اسمه) كان يلاحقنا بإلحاح، وأصر أن يدعونا على العشاء. وقبلنا بحسن نية، وعلى المائدة افتتح كلامه بالحديث عن نوع «الجمبري الجامبو» الذي حرص أن يقدمه لنا، وكنت أول مرة أسمع هذا الاسم، وأرى «جمبري بهذا الحجم»، ولم يتورع أن يذكر ثمن الكيلو منه وقتها، وكان رقما كبيرا حينها، زهيداً جدا بأسعار الآن، لكن ذهني وضع ذلك الشخص بجوار صورة «الصيدلاني عضو منظمة سيناء»، هذا المشلول الذي صنع بطولاته في صمت إكبارا لقيمة الوطن، وانزوى مع مواجع جسده إلى الظل ببيته. ليتصدر المشهد هذا الفسل ليحدثنا عن الجمبري، وكان مصراً  على أنه من أهم الفنانين التشكيليين في مصر  وقتها، وعرض علينا لوحاته، أو تفاهاته، وكلها عن الخيل والجمال والخيام والبادية التي خانها، وألمح كثيرا خلال كلامه عن نفسه، لبطولات قام بها أثناء الحرب، ولم يحددها، وأعقبها كلها بحديث لزج عن جماليات وضرورات السلام، لينعم الناس بحياتهم بعد ما كابدوه في الحرب، وأشار إلى النهضة العمرانية التي رأيناها في شمال سيناء. ولم أكن قد رأيت غير مساكن شعبية في أغلب الأماكن، وأماكن سياحية يمتلكها رجال أعمال في مختلف الأنحاء، ودعايتها في كل مكان. 

قبل انتهاء جلسة العشاء تلك كنت قد شعرت بمدى ما أصاب حياتنا، وقيمنا، وأن الحقيقيين لم يعد لهم مكان، وأن الواقع لم يعد يحتمل غير وجود هذا الدعيّ. ربما كانت المرة الوحيدة في حياتي التي ازدرت فيها لُقيمات غصباً، وما زلت أشعر بالتسمم الذي انتاب روحي بعدها وإلى الآن.  

لم أعد من أي مكان في حياتي، مشحونا بالألم، وقلة الحيلة، كما عدت من سيناء في تلك الرحلة المرعبة.

وفي المجلة رحبت رئيسة التحرير بالموضوعات فورا، وانتشى بها كل أعضاء الديسك، ونشرت في أول عدد، وكان أول موضوع في الصحافة المصرية عن مذابح الأسرى المصريين، وأحدث ردود أفعال شعبية وحزبية واجتماعية لافتة، لكن ردود الفعل الأكبر  في الحقيقة، كانت على تحقيق قدمته جريدة الأهرام بعدها بأسبوع تقريبا، وبدا لي محايدا، وأرجعت حياده إلى حسابات سياسية، لكنه مهنيا، للأمانة، اعتمد على ما قدمناه فقط من معلومات في موضوعنا بمجلة «نصف الدنيا»، مع آراء لمصادر مختلفة.

اختار له دسك المجلة وقتها عنوانا مبهراً، موحياً، «قيامة الأسرى»، واقتطع له بذكاء كبير بعض أبيات من قصيدة «لا تصالح» لـ «أمل دنقل»: 

والذي اغتالني مَحضُ لص

سرق الأرض من بين عينيَّ

والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!

لا تصالح

ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ

لا تصالح

فليس سوى أن تريد

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد

وسواك.. المسوخ!
-------------------------------
بقلم: أسامة الرحيمي

مقالات اخرى للكاتب

كارثة علاء مبارك وصبيانه!!





اعلان